كان الإمام أحمد بن شعيب النسائي حافظًا ثبتًا لا يجاريه أحد من أهل عصره.
وكان شرطه في الرجال أشد من شروط أصحاب السنن، حتى اعتبر الإمام السيوطي كتاب "المجتبى" أقل الكتب بعد الصحيحين حديث ـ اً ضعيف ـ اً ورجلاً مجروح ـ اً.
وقد صنّف كتابًا كبيرًا حافلاً عُرف بالسنن الكبرى، ثم انتخب منه كتابا سماه "المجتبى"، وقد سار فيه على طريقة دقيقة تجمع بين الفقه وفن الإسناد.
ورتب الأحاديث على الأبواب، ووضع لها عناوين تبلغ أحيانًا منزلة عالية من الدقة، وصار "سنن النسائي" - كما اشتُهر - ضمن كتب الصحاح أو السنن، والتي عرفت بالكتب الستة.
منهج الإمام النسَائي المتعلق بالأسانيد
أولا: شروطه في أسانيد سننه:
1- الصحة:
أن تتوفر شروط الحديث الصحيح المعروفة في كل حديث يخرجه، وقد نُقل عن الإمام النسائي وصفه لكتابه بالصحيح، ولكن واقع كتابه لا يساعد على هذه التسمية إلا من باب التغليب، ومن باب إدراج الحسن في الصحيح أيضا، ولئن لم يكن الكتاب كله صحيحاً فهو قريبٌ إلى الصحة.
2- الرجال (الرواة):
أخرج الإمام النسائي لكل من لم يُجمع العلماء - المتشددين والمتوسطين - على تركه، وكان يفضِّل إخراج الحديث بإسناد قوي وإن كان نازلا، حتى ولو كان الحديث عنده بإسناد أعلى.
ثانيا: منهجه في التعليق على الأحاديث والحكم عليها:
1- الحكم على الأحاديث:
لم يُكثر الإمام النسائي من ذكر حكمه على الحديث، وإنما فعل ذلك في مواطن يسيرة، ومنها قوله بعد أحد الأحاديث: "ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلاً".
2- توضيح العلل وذكرها:
لم يُكثر الإمام النسائي من التعرض لذكر العلل التي تقدح في صحة الحديث، لأنه انتقى أغلب الأحاديث التي أوردها، وكان يتعرض أحيانا لذكر ترجيحه لما فيه خلاف بين الرفع والوقف أو الإرسال والوصل.
ثالثا: منهجه في ترتيب أحاديث سننه:
1- الترتيب على أبواب الفقه:
رتّب الإمام النسائي كتابه على أبواب الفقه، لأن الأحاديث التي أوردها يغلب عليها أحاديث الأحكام، ولذا سُ ـ مّيَ بالسنن.
2- ترتيب الأحاديث في الباب:
كان الإمام النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له، وقد يبدأ بالحديث الصحيح ثم يُتبعه بالحديث ال ـ مُعل أحيانا.
رابعا: منهجه في غير الموصول (المرسل والمنقطع):
لم يشترط الإمام النسائي على نفسه أن يُخرج الموصول فقط؛ ولذا أخرج بعض الأحاديث المرسلة والمنقطعة، ولكنه كان يبيّن ذلك عند وقوعه، ومن أمثلة ذلك:
1- المرسل:
قوله بعد حديثٍ لجرير عن منصور عن ربعيّ عن حذيفة رفعه (لا تقدّموا الشهر): أرسله الحجاج بن أرطأة عن منصور بدون حذيفة.
2- المنقطع:
قوله في حديث مخرمة بن بُكير عن أبيه: مخرمة لم يسمع من أبيه شيئا، وفي حديث لأبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود، قال: إنه لم يسمع من أبيه شيئا، وكثيرا ما يسمّي المنقطع مرسلا.
خامسا: منهجه في الآثار الموقوفة:
أورد الإمام النسائي بعض الآثار الموقوفة، وكان يبيّن ما في الحديث من اختلاف في الرفع أو الوقف، والوصل أو الإرسال، ويعبِّر عنه بقوله: "ذِكر الاختلاف على فلان في حديث كذا" ثم يقول: أوقفه فلان، وغير ذلك، أو يرجّح فيقول: "الصواب موقوف".
سادسا: منهجه في تكرار الحديث:
زاحم الإمام النسائي إمام الصنعة البخاري في التبويب وتدقيق الاستنباط وتكرير المتون مراعاة لذلك، فكان يُعيد الحديث لكي يستنبط منه شيئاً لم يكن قد استنبطه عند إيراده في المرة الأولى، وقد يقع له تكرير الباب مع حديثه سواء بسواء.
وقد يكون بين الترجمتين تفاوت يسير، ولا يأتي في حديثهما بأي زيادة، وربما يزيد في أحد الموضعين مكمّلا تعيين ما أهمله من رواة السند، وقد يورد في كل منهما للحديث طريقا؛ ليزداد الناظر له في المتن تحقيقا، وقد يكرر الباب خاصة دون متنه.
سابعا: منهجه في بيان طرق الحديث واختصارها:
الأصل في إخراج الأحاديث بأسانيدها أن يُفرَد كل حديث بالرواية سنداً ومتناً، ولكن خشية التطويل دفعت الأئمة - ومنهم الإمام النسائي - إلى اتباع طرق للاختصار، منها:
1- جمع الشيوخ بالعطف:
جمع بين شيوخه بالعطف بحرف الواو، طلبا للاختصار، وعدم تكرار الجزء المشترك من الإسناد بأكمله، ومن ذلك قوله في سننه: "أخبرنا إسحاق بن إبراهيم وقتيبة بن سعيد، عن جرير.. " الحديث.
2- جمع الأسانيد بالتحويل:
جمع بين الأسانيد باستخدام حرف يدل على التحويل - أي الانتقال من سند إلى آخر- وهو حرف "ح"، والهدف من التحويل اختصار الأسانيد التي تلتقي عند راو معين، بعدم تكرار القدر المشترك بينها، وتوضع حاء التحويل "ح" عند الراوي الذي تلتقي عنده الأسانيد، ويكون عليه مدار مخرج الحديث، وقد توضع حاء التحويل بعد ذكر جزء من المتن، عند الموضع الذي يبدأ فيه اختلاف الروايتين.
3- ذكر بعض الطرق أو جزء من حديث والإشارة إلى الباقي للاختصار:
إذا كان للحديث أكثر من إسناد أو متن، فإنه قد يذكر بعضها ويشير إلى باقيها، دون أن يذكرها بطولها، قال الإمام النسائي في سننه بعد أن ذكر أحد الأحاديث: "أخبره هلال بن أسامة أنه سمع أبا سلمة يخبر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله".
ثامنا: منهجه في الجرح والتعديل وتعريف الرواة:
لم يُكثر الإمام النسائي من ذكر ما يتعلق بتعديل بعض الرواة أو تجريحهم، وكذلك لم يُكثر من التعريف بالرواة، ولكنه كان يتعرض أحيانا لبيان أن فلانا من الصحابة أو التابعين، أو أنه كوفيٌّ أو بصريٌّ، أو بيان تاريخ مولد أو وفاة أو اختلاط راوٍ معيّن، وغير ذلك مما ينفع في توضيح اتصال أو انقطاع بين راويين، أو تمييز راو من غيره.
ومن أمثلة ما أورده في الجرح والتعديل بعد إيراده للحديث قوله: "بُريدة هذا ليس بالقوي في الحديث"، ومثال ما أورده لتوضيح انقطاع بين راويين قوله: "عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من ابن عمر".
منهج الإمام النسائي المتعلق بالمتون:
أولا: منهجه في تراجم الأبواب ومسالكها:
كان الغالب على تراجم أبواب السنن (التراجم الظاهرة)، وقلّما تجد فيها تراجم استنباطية أو مرسلة، ولكن الإمام النسائي نوّع بين المسالك التي استخدمها في تلك التراجم، وينتظم إيضاح ذلك فيما يلي:
1- التراجم الظاهرة:
هي التي يدل عنوان الباب فيها على مضمونه من الأحاديث دلالة واضحة، لا يحتاج القارئ فيها إلى إعمال فكره لمعرفة وجه الاستدلال، ومن المسالك التي استخدمها في هذا النوع من التراجم:
- الاستفهام، مثل: "بابٌ هل يؤذنان جميعا أو فُرادى؟ ".
- الصيغة الخبرية العامة، مثل: "باب الماء الدائم".
- الصيغة الخبرية الخاصة، مثل: "الأمر بإراقة ما في الإناء إذا ولغ فيه الكلب".
- الاقتباس من لفظ الحديث، مثل: "باب من أدرك ركعة من الصلاة".
2- التراجم الخفية (الاستنباطية):
هي أن يأتي في لفظ الترجمة احتمالٌ لأكثر من معنى، فيعيّن أحد الاحتمالين بما يذكر تحتها من الحديث، أو أن يكون الاحتمال في الحديث والتعيين في الترجمة، ، ومن المسالك التي استخدمها في هذا النوع من التراجم:
- كون الترجمة أعمُّ من ال ـ مُترجم له، مثل قوله: "باب الوضوء من النوم"، ثم أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يُدخل يده في الإناء حتى يُفرغ عليها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده)، فالترجمة هنا أعمّ، لأن فيها ذِكر الوضوء، وليس في الحديث إلا غسل اليدين ثلاثاً.
- كون الترجمة أخصّ من المترجم له، مثل قوله: "باب الرخصة في السواك بالعشيّ للصائم"، ثم أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، فالترجمة هنا أخصّ، لأن فيها ذكر السواك بالعشي للصائم، والحديث يفيد السواك للصائم وغيره، ووقت العشي وسواه، فهو أعمّ.
- تطابق الترجمة مع أحاديث الباب بطريق الاستنتاج لعلاقة اللزوم، مثل قوله: "باب النية في الوضوء"، ثم أخرج حديث عمر رضي الله عنه مرفوعا: "إنما الأعمال بالنيات.. . الحديث"، فوجه مطابقة الحديث للترجمة أن الوضوء عملٌ فتلزم له النية.
3- التراجم المرسلة:
لم يُكثر الإمام النسائي منها، وأوردها مرات قليلة، مثل قوله: "باب نوعٌ آخر. أخبرنا عبد الله بن محمد بن تميم. . "، ومراده نوعٌ آخر من التيمم، لتقدم باب الاختلاف في كيفية التيمم.
ثانيا: منهجه في ذكر الفوائد والاستنباطات الفقهية:
كان الإمام النسائي يعتني بالألفاظ الغريبة أحيانا، ويهملها أحيانا أخرى، وكان يذكر بعض الاستنباطات الفقهية، ومن أمثلة ذلك:
1- غريب الحديث:
شرح الإمام النسائي بعض الألفاظ الغريبة وأوضحها، ومن ذلك قوله بعد سرد الحديث: "القدح وهو الفَرَق".
2- ذكر الناسخ والمنسوخ:
كان الإمام النسائي يكتفي بتقديم المنسوخ وتأخير الناسخ، دون أن يصرِّح بالنسخ تصريحا.
3- الاستنباطات الفقهية:
كان الإمام النسائي يتعرض أحيانا لبعض ما يمكن الاستدلال به، ويذكر الاستنباط الفقهي منه، ومن أمثلة ذلك ما أورده بعد أن أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحيّ ـ نت فطره بنبيذ صنعته له في دبّاء - أي قرع - ، فجئته به، فقال: (أَدْنِه)، فأدنيته منه فإذا هو ينشّ، فقال: (اضرب بهذا الحائط.
فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر)، قال أبو عبد الرحمن: "وفي هذا دليل على تحريم السّكر قليله وكثيره، وليس كما يقول المخادعون لأنفسهم بتحريمهم آخر الشربة وتحليلهم ما تقدمها الذي يُشرب في الفَرَق قبلها، ولا خلاف بين أهل العلم أن السُّكر بكلّيّته لا يحدث عن الشربة الآخرة، دون الأولى والثانية بعدها، وبالله التوفيق".
المصدر: موقع إسلام ويب